فصل: تفسير الآيات (169- 175):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآية رقم (162):

{أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)}.
التفسير:
هنا مقابلة بين من استجاب للّه، وانقاد لما يرضيه، فرجع مزوّدا برحمة اللّه ورضوانه، وبين من مكر باللّه، وكفر بآياته، فانقلب موقرا بسخط اللّه وغضبه.
وبين الطرفين المتقابلين بعد بعيد، واختلاف شديد.
فالطرف الأول يمثّله الرسول ومن كان معه من المؤمنين.
والطرف الآخر يمثله عبد اللّه بن أبىّ بن سلول ومن اتبع سبيله من المنافقين.
والطرف الأول من رضى اللّه، في رحمة ومغفرة في الدنيا، وإلى جنات ونعيم في الآخرة.
والطرف الآخر، من سخط اللّه وغضبه في غيظ وكمد في الدنيا، وإلى جهنم وعذاب السعير في الآخرة.
وفى قوله تعالى: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ} إشارة إلى أن اللّه سبحانه وتعالى قد تقبل من النبيّ ما كان منه من استجابته لأمر ربّه، وتلبيته ما دعاه إليه، من الصفح الجميل عن أصحاب الهفوات من أصحابه، وإخلاء نفسه من كل عوارض الغيظ أو الكظم مما كان منهم.. وفى هذا اتباع لما يرضى اللّه، ويزيد في مرضاته، وهو ما عبرّ عنه هنا بالرضوان.

.تفسير الآية رقم (163):

{هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163)}.
التفسير:
إنه لا يستوى من اتبع رضوان اللّه ومن باء بسخطه.. فهم درجات ومنازل عند اللّه.
فالذين اتبعوا رضوان اللّه في رحمة ونعيم.. وهم في تلك الرحمة، وهذا النعيم درجات، بعضها فوق بعض.
والذين مكروا باللّه وباءوا بسخطه في بلاء، وهمّ وجحيم، وهم في هذا البلاء وذلك الجحيم، درجات، بعضها دون بعض.

.تفسير الآية رقم (164):

{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164)}.
التفسير:
فى هذه الآية الكريمة ما يزكّى الرأى الذي ذهبنا إليه في تفسير قوله تعالى: {وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} وهو أن الغلّ من الحقد، لا من الغلول بمعنى الخيانة.
ففى هذه الآية:
أولا: تذكير النبيّ الكريم بأنه رحمة أرسلها اللّه للناس، ومنّة منّ اللّه بها عليهم، بما يتلو عليهم من آيات اللّه، وبما يفتح لهم من طاقات النور، وبما يفيض عليهم من مواطر الهدى، فيطهرهم من أرجاس الكفر والضلال، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويفتح قلوبهم المظلمة إلى حيث مطالع الهدى والنور، ويوقظ عقولهم النائمة الغافية لتتصل بهذا الكون وتطالع في صفحات الوجود وعلى قسمات الموجودات، بعض ما أبدعت قدرة الخالق العظيم، وما وسع علمه.
وهنا يرى الرسول- مع عظم المسئولية التي يحملها- مدى الخير الذي يسوقه اللّه على يديه إلى الناس، الذين هو منهم وهم منه، فيحمله ذلك على أن يبالغ في تحرّى الدقة البالغة في ألا يشوب هذه النعمة العظيمة كدر، أو يعلق بها أذى، حتى تصل إلى مكانها من الناس صافية، مشرقة، طيبة.
وهذا ما يجعل الرسول الكريم مستعدا لتحمّل الأذى في سبيل رسالته، متجاوزا عن كل ما يعرض له في طريقه، من حماقات الحمقى وسفاهات السفهاء، فإذا دعى من ربّه إلى أن يكظم غيظه، ويعفو الناس، ويلين لهم، ويستغفر للمسيئين منهم، وجدت تلك الدعوة الكريمة من قلب الرسول مكانا، ووجد منها الرسول الكريم ما تهفو إليه نفسه، ويناجيه به وجدانه.
وثانيا: في الآية الكريمة أيضا، يرى المؤمنون ما آتاهم اللّه من فضله، وما أوسع لهم في برّه وكرمه، إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم، يعرفون وجهه، ويأنسون إليه، ويتلقون من بين يديه ما يتلّقى هو من ربّه من نفحات ورحمات، يسوقها إليهم، فيعيدهم خلقا جديدا، فإذاهم ناس غير الناس، وقوم غير القوم.. قد أشرقت قلوبهم بنور الحق، واستنارت عقولهم بأضواء المعرفة.
{وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.
وتلك نعم من اللّه سابغة، وأفضال غامرة، ينبغى أن يذكروها، ويؤدوا شكرها، إيمانا باللّه، وجهادا في سبيل اللّه، وطاعة وولاء لرسول اللّه، الذي حمل إليهم هذا الخير، وغرسه في مغارسه، ورواه من خفقات قلبه، ومسارب وجدانه.

.تفسير الآيات (165- 168):

{أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168)}.
التفسير:
هذه مواجهة أخرى للمؤمنين الذين شهدوا أحدا، ورأوا ما أصيبوا به في أنفسهم وفى إخوانهم هناك، ثم ما وقع في نفوسهم من وساوس وظنون، كلّما خبت جذوتها، وبردت نارها، نفخ فيها المنافقون، والكافرون، فازداد ضرامها، وتسعّرت نارها.
وفى هذه المواجهة يجد المؤمنون عتابا رقيقا من اللّه، وعودا باللائمة عليهم فيما وقع لهم.. كما يجدون فيما بين العتاب واللوم عزاء وتسرية.
فإذا كان المسلمون قد أصيبوا يوم أحد، فقد كان لهم في عدوهم الذي رماهم بما أصيبوا به، نكاية وجراحات في يوم بدر ضعف ما أصابهم به في يوم أحد.. {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ}.
وإذن فلا يصح للمسلمين أن يقفوا بنظرهم عند ما أصيبوا به، دون أن يمتد هذا النظر إلى ما كان لهم في عدوّهم، وهنا يستقيم النظر على الواقع كله، فيرون أنهم أرجح كفّة، وأربح صفقة.. وإذن فما ينبغى لهم أن يعجبوا، وأن ينكروا هذا الذي حدث لهم، ويقولوا: {أنّى هذا} تلك القولة التي يكادون يهلكون بها أنفسهم وما اشتملت عليه من إيمان.
ثم إنه إذا صح للمسلمين أن يعجبوا ويستنكروا هذا الحدث، فليكن ذلك مقصورا على ذات أنفسهم وحدها، بمعزل عن الدّين الذي آمنوا به وأضيفوا إليه! فإنه إذا كان ثمة خلل في جماعة المسلمين مكّن لعدوّهم أن ينال منهم ما نال، فذلك الخلل إنما هو في ذات أنفسهم، لا في الدين الذي يجاهدون في سبيله:
{قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} أي بما أحدثتم في هذا اليوم من أمور، عزلت كثيرا منكم عن موقف الجهاد، وباعدت بينهم وبين اللّه! لقد تغيّرتم أنتم أيها المسلمون، وتغيّر ما بأنفسكم، فغيّر اللّه مكانكم من النصر الذي كان دانيا لكم، قريبا من أيديكم.
أمّا اللّه- سبحانه وتعالى- فحاشا أن يتغيّر أو يتبدّل، فترونه قويّا عزيزا يوم بدر، ولا ترونه على تلك الصفة يوم أحد.. ذلك مما ينزّه اللّه عنه:
{إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قدرة مطلقة دائمة، لا تحول ولا تزول أبدا.
وقوله تعالى: {وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ}.
هو عزاء ومواساة للمسلمين، لما أصابهم في تلك المعركة.. وأن يد المشركين ما كانت لتعلوهم إلا بإذن اللّه، ولأمور قدّرها اللّه وأرادها.
وقوله سبحانه: {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} هو كشف لبعض ما أراد اللّه من هذا المصاب الذي وقع في المسلمين.
فهو امتحان وبلاء لهم، ليعرفوا ما في أنفسهم من إيمان وصبر، وليتعاملوا مع اللّه على قدر ما انكشف من إيمانهم وصبرهم.
وقوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ}.
هو وجه آخر من وجوه الحكمة التي تنكشف من وراء هذا الذي حدث في أحد، وهو أن تنكشف وجوه المنافقين للمؤمنين، فيأخذوا حذرهم منهم، ويعزلوهم عنهم، فإنهم- حيث كانوا- مرض خبيث، يغتال قوى الجماعة التي يندس فيها، ويختلط بها.
وقولة المنافقين هنا، والتي حكاها القرآن الكريم عنهم في قوله تعالى: {لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ} قولة منافقة خبيثة، تحمل وجوها من الكيد والتوهين لقوى المسلمين، وهم في مواجهة العدو.
فقد تحمل هذه القولة على أن هذه الجماعة المنافقة لا تعلم أن قتالا سيكون بين المسلمين والمشركين، وأن قريشا، إنما جاءت لتعرض قوّتها، ولتلقى في قلوب المسلمين الرعب منها، حتى لا يعترضوا تجارتها في طريقها إلى الشام.
ثم تنصرف بلا قتال.
وقد تحمل هذه القولة أيضا- وهو الوجه الواضح منها- على أن ما بين المسلمين وبين قريش لن يكون حربا بالمعنى المفهوم.. لأن الحرب بهذا المعنى تكون بين قوتين متكافئتين، الأمر الذي لا يراه المنافقون بين المسلمين وبين قريش.. فالمسلمون- كما يرى المنافقون- في عدد قليل وضعف ظاهر، وقريش في جموع كثيرة، وأعداد وفيرة، وسلاح وعتاد يملأ السهل والوعر.
فكيف يكون بين هؤلاء وأولئك حرب؟ إنها ليست إلا ضربة واحدة بيد قريش حتى ينتهى كل شيء.
فكيف ندعى إلى حرب ولا حرب؟
إنها عملية انتحار أقرب منها إلى الحرب.. هكذا يقول المنافقون.
وقوله تعالى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ}.
إدانة لهم، وحكم عليهم، بهذه الكلمة المنافقة، التي باعدت بينهم وبين الإيمان الذي ينسبون أنفسهم إليه، والتي خطت بهم خطوات سريعة إلى الكفر، فكادوا يكونون كفرا خالصا.
وفى قوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ} ما يفضح نفاقهم، ويكشف حقيقة أمرهم.. إنهم لا يريدون أن يكونوا في المجاهدين، ولا يودّون للمسلمين نصرا، ولا يرجون للدّين انتصارا.. وإنما هم يعذرون لأنفسهم بهذه الكلمات المنافقة ليعيشوا بها في المؤمنين ولا ينقطعوا بها عن الكافرين والمشركين.
وقوله تعالى: {الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} هو عرض لمقولة أخرى من مقولاتهم المنكرة، وقد ذكرها اللّه عنهم من قبل في قوله سبحانه: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا} [156: آل عمران] كما ذكرها القرآن في قوله تعالى: {وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا} [154: آل عمران].
وقد شرحنا ما أرانا اللّه في هاتين الآيتين في موضعيهما.

.تفسير الآيات (169- 175):

{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}.
هو تطمين للمؤمنين، وكبت وحسرة للكافرين والمنافقين.
فهؤلاء الذين قتلوا في سبيل اللّه، قد استوفوا آجالهم في الدنيا، ولم يذهب القتل بساعة من أعمارهم، فما قتل منهم قتيل إلا بعد أن انتهى أجله المقدور له عند اللّه.
ثم إن هؤلاء القتلى {شهداء} أي حضور، لم يغيبوا، ولم يصيروا إلى عالم الفناء والعدم، وإنما هم أحياء حياة باقية خالدة، لا يذوقون فيها الموت.
وهذا هو الذي يصير إليه كل من يموت من الناس. من مؤمنين وكافرين.
وهذا هو الذي يؤمن به المؤمنون باللّه، فلا يرون في الموت خاتمة الإنسان وانتهاء دوره في الوجود، وإنما يرون الموت رحلة من عالم إلى عالم، ونقلة من دار إلى دار.. من دار الفناء والزوال إلى دار البقاء والخلود، ومن عالم التكليف والابتلاء، إلى عالم الحساب والجزاء.
ومن أجل هذا يستخفّ المؤمنون بالموت، ولا يكبر عليهم خطبه، لأنهم ينظرون إلى الحياة الخالدة بعده، ويعملون لها، ليسعدوا فيها، ولينعموا بنعيمها المعدّ لعباده اللّه الصالحين.
أما غير المؤمنين باللّه، فإنهم لا يؤمنون باليوم الآخر، ولا يعتقدون أن وراء الحياة الدنيا حياة، وأنهم إذا ماتوا صاروا إلى تراب وعدم.
ولهذا يشتد حرصهم على الحياة، ويعظم جزعهم من الموت، إذ كان العدم- كما يتصورن- هو الذي ينتظرهم بعده.. فتتضاعف حسرتهم على من مات منهم، ويشتد حزنهم عليه، لأنهم- حسب معتقدهم- لا يلتقون به أبدا!! هذه هي الحقيقة.. الأموات جميعا، ليسوا بأموات على الحقيقة، وإنما هم أحياء في العالم الآخر.
ولكن القرآن الكريم لم يكشف هذه الحقيقة كلها، ولم يظهر منها إلا ما يملأ قلوب الكافرين والمنافقين حسرة وألما، وإلّا ما يبعث في قلوب المؤمنين العزاء والرضا، إذ ينظر هؤلاء وأولئك جميعا إلى قوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} فيجدون هؤلاء القتلى أحياء في العالم العلوي، يرزقون من نعيمه، ويطعمون من طيباته: {فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}.
فهؤلاء القتلى الذين ينظر إليهم المشركون والمنافقون نظر شماتة وتشفّ، على حين ينظر إليهم إخوانهم وأحبابهم نظرة حزن وأسى لهذه الميتة التي ماتوا عليها- هؤلاء القتلى قد أشرفوا على الدنيا من عليائهم، ينعمون بما أتاهم اللّه من فضله- وإنه لفضل عميم، يملأ القلوب بهجة ومسرة.. فيحزن لذلك المشركون والمنافقون، ويتعزّى به، ويستبشر المؤمنون.
قوله تعالى: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
بيان لكمال هذا النعيم الذين ينعم به هؤلاء الشهداء، وأنهم ليسوا مجرد أحياء حياة باهتة، بل هم في حياة قوية كاملة، بحيث تشمل عالمهم العلوىّ الذي نقلوا إليه، وعالمهم الأرضى الذي انتقلوا منه.. فهم في هذا العالم العلوىّ.
إذ ينظرون إلى أنفسهم فيجدون أنهم في فضل من اللّه ونعمة، وأنهم إنما نالوا هذا الفضل وتلك النعمة بجهادهم في سبيل اللّه، وباستشهادهم في هذه السبيل- يعودون فينظرون إلى إخوانهم المؤمنين الذين لم يلحقوا بهم بعد، وأنهم على طريق الجهاد والاستشهاد، فيستبشرون لذلك، وتتضاعف فرحتهم إذ سيلقى إخوانهم هذا الجزاء الذي جوزوا هم به، وينعمون بهذا النعيم الذي هم فيه، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}.
فكما وفّى اللّه هؤلاء الذين استشهدوا في سبيل اللّه، سيوفّى الذين لم يستشهدوا بعد أجرهم، فاللّه سبحانه وتعالى لا يضيع أجر المؤمنين، ولا يبخس ثواب المجاهدين.
وقوله سبحانه: {الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ}.
المراد بهؤلاء الذين الذين استجابوا للّه ورسوله، هم المسلمون الذين خرجوا مع النبيّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- بعد عودتهم من أحد، وقد بلغ النبيّ أن قريشا بعد انصرافها من أحد، ندمت على أنها أنهت القتال من قبل أن تستأصل المسلمين، وقد أمكنتها الفرصة فيهم، فبدا لها أن تعود فتدخل عليهم المدينة وتبيدهم جميعا.. وهنا أمر النبي أصحابه أن يخرجوا للقاء العدو، دون أن يكون فيهم أحد ممن لم يشهد معهم القتال.. فخرج المسلمون الذين شهدوا أحد، جميعا، وهم مثخنون بالجراح، لا يكاد أحدهم يمسك نفسه.. فلما علمت قريش أن النبيّ خرج في أصحابه ظنوا أن النبيّ يطلبهم، ليأخذ للمسلمين بقتلاهم في أحد.. فرجعوا إلى مكة، ورجع النبيّ وأصحابه إلى المدينة، دون أن يقع قتال.
فهؤلاء الذين هم استجابوا للّه والرسول من بعد ما أصابهم القرح. وقد عدّهم اللّه جميعا في الشهداء، من استشهد منهم فيما بعد من ولم يستشهد، لأنهم كانوا في مواجهة القتل المحقق.
وقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} هو شرط لنيل درجة الاستشهاد، إذ لابد أن يستمسك هؤلاء المؤمنون بما هم عليه يومئذ من إحسان وتقوى، أمّا من انحلّ عزمه، وفتر إيمانه بعد ذلك، فليس أهلا لأن ينال هذه الدرجة العليا، وذلك الأجر العظيم.
وفى هذا تحذير للمسلمين الذين ذكرهم اللّه، ومجّد عملهم، وأعلى منزلتهم- من أن يستنيموا في ظل هذا الوعد الكريم، دون أن يعملوا ليكونوا أهلا له، وليظلوا محتفظين بهذه المنزلة التي أنزلهم اللّه أياها، فليتقوا وليحسنوا، وليزدادوا إحسانا وتقوى، فعند اللّه منازل كثيرة للمتقين المحسنين.
وقوله تعالى: {الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}.
هو بيان لهؤلاء الذين استجابوا للّه والرسول من بعد ما أصابهم القرح، ولموقفهم يومئذ من عدوهم.. فقد ترامت إليهم الأنباء التي أرجف بها المرجفون فيهم، من المشركين والمنافقين، ليزيدوا في آلامهم، وليدخلوا اليأس عليهم.
ولكن ما إن دعاهم الرسول إلى ملاقاة العدو، حتى خفّوا مسرعين، متحاملين على أنفسهم، غير ملتفين إلى جراحهم التي تتفجر دما.
وقيل إن المراد بالذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم، هم المؤمنون الذين استجابوا للنبى، وخرجوا معه للقاء قريش في بدر الثانية.
وذلك أن أبا سفيان كان قد أنذر النبيّ والمسلمين بعد معركة أحد بأنه سيلقاهم في مثل هذا اليوم، في بدر.. ذلك أنه في نشوة هذا النصر الذي ناله كان يرى أن أحدا لم تثأر الثأر الذي ينشده، لما أصاب قريشا في بدر، فأراد أن يعيد معركة بدر من جديد، ليطلع عليها في قريش بصورة غير الصورة التي وجدتهم عليها يومئذ.
وكان أبو سفيان حين جاء الموعد الذي واعد النبيّ، على غير استعداد لملاقاة النبي والمسلمين في بدر، إذ كان العام عام جدب.. فأظهر أنه يستعدّ للحرب، ويجمع لها، وبعث إلى النبيّ من يلقى إليه- كذبا- أن قريشا تجمع له أعدادا لا قبل له بها.
أما النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فقد دعا أصحابه إليه، ونديهم للقاء القوم على الموعد الذي تواعدوا له.. فاستجاب له أصحابه، وتقاعس المنافقون، وأرجفوا بالناس، وأذاعوا الفزع في المسلمين، وقالوا فيما قالوا لهم: إن قريشا قد فعلت بكم في أحد ما فعلت وأنتم في كنف دوركم وبين أهليكم، فكيف يكون حالكم معها وأنتم تلقونها في بدر؟ وأين المفرّ إذا انتصرت عليكم؟.
فنزل قوله تعالى: {إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
فسكنت لذلك أفئدة المؤمنين واطمأنت، وسار النبي بأصحابه حتى نزل بدرا.. وخرج أبو سفيان فيمن اجتمع له، فلما علم أن النبيّ ينتظره بالمسلمين في بدر، قفل راجعا.
وانتظر النبيّ هناك بالمسلمين أياما، حتى انفضّت السوق التي كانت تقام هناك كل عام، وباع المسلمون واشتروا، وعادوا سالمين غانمين، وفى هذا يقول اللّه تعالى: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}.
وفى قوله: {الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} نجد في التعبير عن المرجفين بهذا القول، والمهوّلين له، بكلمة {الناس} تحقيرا لهم، وبألّا صفة لهم في الناس إلا أنهم على صورة الآدميين، وأنهم والمشركين من قريش على مستوى واحد من الكفر والشرك، إذ عبّر عنهم القرآن بلفظ {الناس} أيضا.. {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ}.
وفى قوله تعالى: {إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ} إشارة عامة تشمل هؤلاء الناس، الذين أذاعوا هذا القول وأرجفوا به، فقالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} كما تشمل المشركين من قريش، وهم: الناس الذين جمعوا لاستئصال المسلمين.
فهؤلاء وهؤلاء حزب واحد.. هو حزب الشيطان، أو هم الشيطان ذاته، في إضلاله وإغوائه: {إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ}.
والضمير في {أوليائه} يعود إلى الشيطان، وأولياؤه هم المنافقون، الذين يتولاهم الشيطان، ويتخذ منهم أعوانا على الشر والفساد.. وهو الذي خوفهم الجهاد في سبيل اللّه، وأراهم الموت في صورة بشعة مخيفة، فانعزلوا عن المسلمين، ونكصوا على أعقابهم.
ويجوز أن يكون المفعول به التخويف هم جماعة المؤمنين، ويكون حينئذ لمفعول به الثاني محذوفا، وتقديره: {إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ}.
بمعنى أن هذه الأصوات المتنادية بأن الناس قد جمعوا لكم، هي من فعل الشيطان على ألسنة المنافقين وغيرهم، وهو يريد بهذا أن يخوّفكم أولياءه الكفار والمشركين، ولهذا جاء قوله تعالى: {فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ردّا على كيد الشيطان، وإفسادا لتدبيره السيء.. ولهذا لم يقع هذا القول من نفوس المسلمين موقعا، بل تلقوه بالعزم والتصميم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}.